أحفظ الله يحفظك
عن أبي العباس عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ:" يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" رواه الترمذي ، وأحمد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7957) .
فهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء : تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش . وقال بعض السلف : إذا أردت أن توصي صاحبك أو أخاك أو أبنك فقل له : أحفظ الله يحفظك . وقال سليمان بن داود عليهما السلام : تعلمنا مما تعلم الناس ومما لم يتعلم الناس فما وجدنا كحفظ الله في السر والعلن .فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه .
* قوله صلي الله عليه وسلم "أحفظ الله يحفظك" أي : أحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه ، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلي ما نهي عنه وحّذر منه ؛ فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه ، وقال تعالي :" هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ؛ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ" ففسر الحفيظ في الآية بالحافظ لأوامر الله ، ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال :"حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى" ومدح المحافظين عليها بقوله :" وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ" . وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة ، قال النبي صلي الله عليه وسلم :"وَلاَ يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِن ٌ"صحيح رقم (952) في صحيح الجامع. ومما يُؤمّر بحفظه الأيّمان ، قال الله عز وجل :" وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ " والأيّمان : هو ما سبق اللسان من غير قصد كقول الإنسان : لا والله ، وبلي والله . فإن الأيّمان يقع الناس فيها كثيراً ويُهمل كثيرٌ منهم ما يجب حفظه فلا يحفظه ولا يلتزمه . ومن الأشياء المأمورين بحفظها الرأس والبطن كما في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني برقم (935) في السلسلة الصحيحة أنه صلي الله عليه وسلم قال : "فليحفظ الرأس وما وعي وليحفظ البطن وما حوى" وحفظ الرأس وما وعي يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات قال تعالي :"إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار علي ما حرم الله ، ويتضمن أيضا حفظ البطن من إدخال الحرام إليها من المآكل والمشارب . ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج ؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه صلي الله عليه وسلم قال :" من حفظ ما بين لحييه (اللسان) ورجليه (الفرج) دخل الجنة" صحيح أنظر صحيح الجامع برقم (140) . والأمثلة علي ذلك كثيرة .
* وقوله صلي الله عليه وسلم "يحفظك" أي من حفظ حدوده وراعي حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل ، وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان : أحدهما حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ؛ قال عمر بن عبد العزيز :" ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه"، وقال ابن المنكدر :" إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدّويّرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر". ومتي كان العبد مشتغلا بطاعة الله فإن الله يحفظه في تلك الحال ؛ قال بعض السلف : من أتقي الله فقد حفظ نفسه ، ومن ضيّع تقواه فقد ضيّع نفسه والله غني عنه . قال بعض السلف :" إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودآبتي .
النوع الثاني من الحفظ وهو أشرف النوعين : حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه ؛ فيحفظه في حياته من الشبهات المضّلة ومن الشهوات المحّرمة ، ويحفظه عند موته فيتوفاه علي الأيمان .
* وقوله صلي الله عليه وسلم "أحفظ الله تجده تجاهك" معناه أن من حفظ حدود الله وراعي حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث يتوجه يحوطه وينصره ويّوفقه ويُسدّده "إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" قال قتاده :" من يتقي الله يكن معه ، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل". بل كتب بعض السلف إلي أخ له فقال :" أما بعد ، فإن كان الله معك فمن تخاف ؟؟ وإن كان عليك فمن ترجو ؟؟؟
* قوله صلي الله عليه وسلم "إذا سألت فأسأل الله ، وإذا استعنت فأستعن بالله" هذا مُقتبسٌ من قوله تعالي "إياك نعبد وإياك نستعين" فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه ، والدعاء هو العبادة كما في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه برقم (3407) في صحيح الجامع.فتضمن هذا الكلام أن يُسأل الله عز وجل وحده ولا يُسأل غيره ، وأن يُستعان بالله دون غيره .
وقال صلي الله عليه وسلم :" من لم يسأل الله يغضب عليه" صحيح ، أنظر صحيح الجامع (2418) ، وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة ، وقد بايع النبي صلي الله عليه وسلم جماعة من أصحابه علي أن لا يسألوا الناس شيئاً ومنهم : أبو بكر وأبو ذر وثوبان رضي الله عنهم أجمعين ، وكان أحدهم يسقط السوط منه وهو علي نآقته فلا يسأل أحد أن يناوله إياه .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلي الله عليه وسلم :"فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ "
وأعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المُتعيّن ، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار ، وفيه الاعتراف بقدرة المسئول علي رفع هذا الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضآر ، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده العزيز الغفار لأنه حقيقة العبادة ، وكان الإمام أحمد بن حنبل يدعو ويقول :" اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك ؛ ولا يقدر علي كشف الضر وجلب النفع سواك ".
فأعلم أن الله سبحانه يُحب أن يُسأل ، والمخلوق يكره أن يُسأل ، ولهذا قال وهب بن مُنبه لرجل كان يأتي الملوك :" ويحك تأتي من يُغلق عنك بابه ويُظهر لك فقره ويُواري عنك غناه ، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار،ويُظهر لك غناه،ويقول ادعني أستجب لك ؟؟
وقال طاووس لعطاء : إياك أن تطلب حوائجك إلي من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلي يوم القيامة أمرك أن تسأله ، ووعدك أن يُجيبك .
وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق ، فلأن العبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضآره ، ولا مُعين له علي مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل ، فمن أعانه فهو المُعان ومن خذله فهو المخذول ، وهذا تحيق قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن المعني لا تحوّل للعبد من حال إلي حال ولا قوة له علي ذلك إلا بالله ، وهذه الكلمة هي كنز من كنوز الجنة ، فالعبد مُحتاج إلي الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر علي المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة ، ولا يقدر علي الإعانة علي ذلك إلا الله عز وجل ، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .قال بعض السلف :" يارب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك ، وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك .
* قوله صلي الله عليه وسلم "رُفعت الأقلام وجفت الصحف" هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد ، فإن مقادير الخلائق قد كُتبت قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما في صحيح مسلم .
* قوله صلي الله عليه وسلم "وأعلم أن الأمة لو اجتمعت علي أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا علي أن يضروك بشيء ؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " المراد : إنما يُصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مُقدّر عليه ، ولا يُصيب العبد إلا ما كُتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق ، ولو أجتهد علي ذلك الخلق كلهم جميعا. وقد قال تعالي :" قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا" وقال :" مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا" وقوله :" قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ "
وأعلم أن مدار جميع هذه الوصية علي هذا الأصل وما ذُكر قبله وبعده فهو مُتفرع عليه وراجع إليه ، فإن العبد إذا علم أنه لن يُصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر وأن اجتهاد الخلق كلهم علي خلاف المقدور غير مُفيد البتة علم حينئذٍ أن الله وحده هو الضآر النافع المعطي المانع ، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده ، فإن المعبود إنما يُقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضآر ، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ولا يُغني عن عابده شيئاً فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يُعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته علي طاعة الخلق جميعاً ، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً ، وأن يُفرده وحده بالاستعانة به والسؤال له وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء ، وليكن لسان حاله في كل وقت من أوقاته قائلاً : اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك ، وأبرأ من الأمل إلا فيك ، وأبرأ من التسليم إلا لك ، وأبرأ من التفويض إلا إليك ، وأبرأ من التوكل إلا عليك ، وأبرأ من الصبر إلا علي بابك ، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك ، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم ، اللهم تتابع برك ، وأتصل خيرك ، وكمل عطائك ، وعمت فواضلك ، وتمت نوافلك ، وبر قسمك ، وصدق وعدك ، وحق علي أعدائك وعيدك ووعدك .
وصلي الله علي نبينا محمد وآله وصحبه وسلم الهم تسليماً كثيرا.
عن أبي العباس عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ:" يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" رواه الترمذي ، وأحمد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7957) .
فهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء : تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش . وقال بعض السلف : إذا أردت أن توصي صاحبك أو أخاك أو أبنك فقل له : أحفظ الله يحفظك . وقال سليمان بن داود عليهما السلام : تعلمنا مما تعلم الناس ومما لم يتعلم الناس فما وجدنا كحفظ الله في السر والعلن .فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه .
* قوله صلي الله عليه وسلم "أحفظ الله يحفظك" أي : أحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه ، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلي ما نهي عنه وحّذر منه ؛ فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه ، وقال تعالي :" هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ؛ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ" ففسر الحفيظ في الآية بالحافظ لأوامر الله ، ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال :"حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى" ومدح المحافظين عليها بقوله :" وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ" . وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة ، قال النبي صلي الله عليه وسلم :"وَلاَ يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِن ٌ"صحيح رقم (952) في صحيح الجامع. ومما يُؤمّر بحفظه الأيّمان ، قال الله عز وجل :" وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ " والأيّمان : هو ما سبق اللسان من غير قصد كقول الإنسان : لا والله ، وبلي والله . فإن الأيّمان يقع الناس فيها كثيراً ويُهمل كثيرٌ منهم ما يجب حفظه فلا يحفظه ولا يلتزمه . ومن الأشياء المأمورين بحفظها الرأس والبطن كما في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني برقم (935) في السلسلة الصحيحة أنه صلي الله عليه وسلم قال : "فليحفظ الرأس وما وعي وليحفظ البطن وما حوى" وحفظ الرأس وما وعي يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات قال تعالي :"إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار علي ما حرم الله ، ويتضمن أيضا حفظ البطن من إدخال الحرام إليها من المآكل والمشارب . ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج ؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه صلي الله عليه وسلم قال :" من حفظ ما بين لحييه (اللسان) ورجليه (الفرج) دخل الجنة" صحيح أنظر صحيح الجامع برقم (140) . والأمثلة علي ذلك كثيرة .
* وقوله صلي الله عليه وسلم "يحفظك" أي من حفظ حدوده وراعي حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل ، وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان : أحدهما حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ؛ قال عمر بن عبد العزيز :" ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه"، وقال ابن المنكدر :" إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدّويّرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر". ومتي كان العبد مشتغلا بطاعة الله فإن الله يحفظه في تلك الحال ؛ قال بعض السلف : من أتقي الله فقد حفظ نفسه ، ومن ضيّع تقواه فقد ضيّع نفسه والله غني عنه . قال بعض السلف :" إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودآبتي .
النوع الثاني من الحفظ وهو أشرف النوعين : حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه ؛ فيحفظه في حياته من الشبهات المضّلة ومن الشهوات المحّرمة ، ويحفظه عند موته فيتوفاه علي الأيمان .
* وقوله صلي الله عليه وسلم "أحفظ الله تجده تجاهك" معناه أن من حفظ حدود الله وراعي حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث يتوجه يحوطه وينصره ويّوفقه ويُسدّده "إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" قال قتاده :" من يتقي الله يكن معه ، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل". بل كتب بعض السلف إلي أخ له فقال :" أما بعد ، فإن كان الله معك فمن تخاف ؟؟ وإن كان عليك فمن ترجو ؟؟؟
* قوله صلي الله عليه وسلم "إذا سألت فأسأل الله ، وإذا استعنت فأستعن بالله" هذا مُقتبسٌ من قوله تعالي "إياك نعبد وإياك نستعين" فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه ، والدعاء هو العبادة كما في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه برقم (3407) في صحيح الجامع.فتضمن هذا الكلام أن يُسأل الله عز وجل وحده ولا يُسأل غيره ، وأن يُستعان بالله دون غيره .
وقال صلي الله عليه وسلم :" من لم يسأل الله يغضب عليه" صحيح ، أنظر صحيح الجامع (2418) ، وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة ، وقد بايع النبي صلي الله عليه وسلم جماعة من أصحابه علي أن لا يسألوا الناس شيئاً ومنهم : أبو بكر وأبو ذر وثوبان رضي الله عنهم أجمعين ، وكان أحدهم يسقط السوط منه وهو علي نآقته فلا يسأل أحد أن يناوله إياه .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلي الله عليه وسلم :"فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ "
وأعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المُتعيّن ، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار ، وفيه الاعتراف بقدرة المسئول علي رفع هذا الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضآر ، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده العزيز الغفار لأنه حقيقة العبادة ، وكان الإمام أحمد بن حنبل يدعو ويقول :" اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك ؛ ولا يقدر علي كشف الضر وجلب النفع سواك ".
فأعلم أن الله سبحانه يُحب أن يُسأل ، والمخلوق يكره أن يُسأل ، ولهذا قال وهب بن مُنبه لرجل كان يأتي الملوك :" ويحك تأتي من يُغلق عنك بابه ويُظهر لك فقره ويُواري عنك غناه ، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار،ويُظهر لك غناه،ويقول ادعني أستجب لك ؟؟
وقال طاووس لعطاء : إياك أن تطلب حوائجك إلي من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلي يوم القيامة أمرك أن تسأله ، ووعدك أن يُجيبك .
وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق ، فلأن العبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضآره ، ولا مُعين له علي مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل ، فمن أعانه فهو المُعان ومن خذله فهو المخذول ، وهذا تحيق قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن المعني لا تحوّل للعبد من حال إلي حال ولا قوة له علي ذلك إلا بالله ، وهذه الكلمة هي كنز من كنوز الجنة ، فالعبد مُحتاج إلي الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر علي المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة ، ولا يقدر علي الإعانة علي ذلك إلا الله عز وجل ، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .قال بعض السلف :" يارب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك ، وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك .
* قوله صلي الله عليه وسلم "رُفعت الأقلام وجفت الصحف" هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد ، فإن مقادير الخلائق قد كُتبت قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما في صحيح مسلم .
* قوله صلي الله عليه وسلم "وأعلم أن الأمة لو اجتمعت علي أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا علي أن يضروك بشيء ؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " المراد : إنما يُصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مُقدّر عليه ، ولا يُصيب العبد إلا ما كُتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق ، ولو أجتهد علي ذلك الخلق كلهم جميعا. وقد قال تعالي :" قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا" وقال :" مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا" وقوله :" قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ "
وأعلم أن مدار جميع هذه الوصية علي هذا الأصل وما ذُكر قبله وبعده فهو مُتفرع عليه وراجع إليه ، فإن العبد إذا علم أنه لن يُصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر وأن اجتهاد الخلق كلهم علي خلاف المقدور غير مُفيد البتة علم حينئذٍ أن الله وحده هو الضآر النافع المعطي المانع ، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده ، فإن المعبود إنما يُقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضآر ، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ولا يُغني عن عابده شيئاً فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يُعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته علي طاعة الخلق جميعاً ، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً ، وأن يُفرده وحده بالاستعانة به والسؤال له وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء ، وليكن لسان حاله في كل وقت من أوقاته قائلاً : اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك ، وأبرأ من الأمل إلا فيك ، وأبرأ من التسليم إلا لك ، وأبرأ من التفويض إلا إليك ، وأبرأ من التوكل إلا عليك ، وأبرأ من الصبر إلا علي بابك ، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك ، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم ، اللهم تتابع برك ، وأتصل خيرك ، وكمل عطائك ، وعمت فواضلك ، وتمت نوافلك ، وبر قسمك ، وصدق وعدك ، وحق علي أعدائك وعيدك ووعدك .
وصلي الله علي نبينا محمد وآله وصحبه وسلم الهم تسليماً كثيرا.